العمل والمال

الإرهاق في العمل عن بُعد: الأسباب والحلول الذهنية الفعَّالة


لم يعد الإرهاق الناتج عن العمل عن بُعد نتيجة للساعات الطويلة وحدها؛ بل ارتبطَ بفقدان الفصل الواضح بين الحياة الشخصية والمهنة.

سنكشف في هذا المقال أسباب هذه الظاهرة، ونقدِّم خطة استعادة ذهنية ثلاثية المراحل تساعدك على استعادة الطاقة، وتحقيق التوازن بين الحياة والعمل، والحفاظ على الصحة النفسية في العمل.

ارتفاع معدلات الإرهاق العقلي بين العاملين عن بُعد

“تظهر الدراسات أنَّ أكثر من ثلث العاملين عن بُعد، يعانون من إرهاق مزمن بسبب تداخل الحياة الشخصية مع المهنية.”

تزايدت في السنوات الأخيرة حالات الإرهاق الناتج عن العمل عن بُعد تزايُداً ملحوظاً؛ إذ تحوَّل ما كان يُعد نمط عمل مريحاً إلى مصدر للإجهاد الذهني المستمر، فقد أدى غياب الحدود بين الحياة الشخصية والمهنية إلى بقاء الموظفين في حالة “تشغيل دائم”، دون انفصال ذهني حقيقي عن العمل.

تتجلى مظاهر الإرهاق العقلي في عدة صور، من أبرزها:

  • التعب المستمر رغم الحصول على قسط كافٍ من النوم.
  • فقدان الدافع الداخلي وضعف الشعور بالإنجاز.
  • اضطرابات النوم الناتجة عن التفكير المستمر في المهام المهنية.
  • تراجع القدرة على التركيز والإبداع بسبب التحفيز الزائد من الشاشات.
  • تدهور الصحة النفسية في العمل نتيجة الضغط المستمر وتعدد المهام.

تؤدي هذه الأعراض إلى اختلال واضح في التوازن بين الحياة والعمل، فتتداخل حدود الراحة والإنتاجية تداخُلاً يرهق الذهن ويستنزف الطاقة العاطفية. في بيئة العمل من المنزل، يصبح التغلب على الإرهاق الناتج عن العمل عن بُعد تحدياً يومياً يتطلب وعياً وتنظيماً دقيقَين.

أكدت دراسة صادرة عن جامعة (King’s College London) ومنشورة من خلال منصة (ARC South London (2023) أنَّ العمل عن بُعد لساعات طويلة، يزيد من مستويات الإجهاد النفسي ويخفض من الرضى الوظيفي، رغم ارتفاع معدلات الإنتاجية الظاهرية.

أشارت نتائج الدراسة إلى أنَّ العاملين الذين يقضون أكثر من 30 ساعة أسبوعياً في العمل من المنزل، أبلغوا عن توتر مرتفع وإرهاق ذهني مستمر مقارنة بنظرائهم في بيئات العمل المكتبية.

شاهد بالفيديو: 4 نصائح للحفاظ على الصحة العقلية والنفسية للفريلانسرز والعاملين عن بعد

 

عندما يختفي الحد الفاصل بين البيت والمكتب

“يحدث الإرهاق في العمل عن بُعد عندما يفقد الفرد قدرته على الفصل النفسي بين دوره المهني وحياته المخصصة.”

لا ينشأ الإرهاق الناتج عن العمل عن بُعد من ضغط المهام وحده؛ بل من مجموعة أسباب نفسية وتنظيمية تتراكم تدريجياً حتى تفقد الفرد قدرته على الفصل بين حياته الشخصية ودوره المهني. مع الوقت، يتحول المنزل -الذي كان في السابق مساحة للراحة- إلى بيئة عمل دائمة تُبقي الذهن في حالة توتر مستمر، ومن أبرز الأسباب الجذرية لهذه الظاهرة:

  • العمل لساعات متقطعة وطويلة دون فترات راحة ذهنية كافية، مما يرهق الجهاز العصبي ويستنزف الطاقة الذهنية.
  • غياب الطقوس اليومية التي تفصل بين بداية يوم العمل ونهايته، مثل التنقل أو تبديل المكان، مما يربك الدماغ ويمنع الانتقال النفسي إلى وضع الراحة.
  • الاعتماد المفرط على التواصل الرقمي المستمر من خلال البريد الإلكتروني والمنصات الاجتماعية، وهو ما يخلق ضغطاً ذهنياً دائماً ويؤثر في الصحة النفسية في العمل.
  • تعدد المهام وضغط الإشعارات الرقمية؛ إذ تفرض التنبيهات والاجتماعات والرسائل حضورها الدائم، مما يقلل التركيز ويزيد الإجهاد الذهني.

من شأن هذا أن يجعل تحقيق التوازن بين الحياة والعمل أكثر صعوبة، ويحوِّل الراحة المفترضة في العمل من المنزل إلى عبء نفسي يحتاج إلى إدارة واعية.

قد أظهرت دراسة من (The Conference Board) أنَّ قرابة 47% من العاملين عن بُعد في الولايات المتحدة الأمريكية، يشعرون بقلق متزايد بسبب ضبابية الحدود بين العمل والحياة الشخصية، وأنَّ 41% منهم، لاحظوا تدهوراً في الصحة النفسية نتيجة لذلك.

بروتوكول الاستعادة الذهنية 3×3

يمكن الحد من الإرهاق في العمل عن بُعد من خلال بروتوكول 3×3 الذي ينظِّم الوقت والمكان والذهن بحدود واضحة.”

بعد فهم جذور الإرهاق الناتج عن العمل عن بُعد، يصبح الحل في إعادة بناء الحدود الذهنية بين الحياة المهنية والشخصية من خلال خطة عملية مكونة من 3 خطوات للفصل ذهنياً بين العمل والحياة الشخصية. يوازن هذا البروتوكول بين الإنتاجية والراحة من خلال ثلاث مراحل مترابطة تعيد للعقل قدرته على الفصل والتجدد.

المرحلة الأولى: فصل الزمان – الروتين الذكي

التحكم في الوقت هو الخطوة الأولى لِاستعادة إدارة الطاقة الذهنية. حدِّد ساعات عمل واضحة لا تتجاوز حدودك الشخصية، وتأكد من وجود فترات توقف قصيرة كل 90 دقيقة لإراحة الذهن. استخدِم أدوات تقنية مثل وضع التركيز (Focus Mode) لإيقاف الإشعارات المهنية بعد انتهاء الدوام. هذا الفصل الزمني يمنح الدماغ إشارة انتهاء تعزز الصحة النفسية في مكان العمل وتحدُّ من تراكم الإجهاد الذهني.

المرحلة الثانية: فصل المكان – بيئة مزدوجة الاستخدام

إنَّ وجود مساحة محددة للعمل داخل المنزل، يخلق حدوداً فعالة بين الإنتاجية والاسترخاء؛ لذا خصِّص زاوية أو مكتباً للعمل فقط، وغادره بمجرد انتهاء اليوم. هذه الممارسة البسيطة تساعد العقل على التمييز بين وضع العمل ووضع الراحة، مما يعيد التوازن بين الحياة والعمل ويخفف من تأثير بيئة العمل من المنزل في الصحة الذهنية.

المرحلة الثالثة: فصل الذهن – الطقوس الاستعادية

بعد كل جلسة عمل مكثفة، مارس طقساً بسيطاً يساعدك على تصفية الضوضاء الذهنية. قد يكون ذلك من خلال تمرينات التنفس العميق، أو المشي القصير، أو التأمل لمدة خمس دقائق. هذه العادات اليومية تتيح للعقل تفريغ التوتر المتراكم وتحفِّز حالة من الهدوء والتركيز الداخلي، ما يجعل الإرهاق الناتج عن العمل عن بُعد أقل حدة وأكثر قابلية للإدارة.

أكدت دراسة منشورة في منصة (arXiv, 2024) بعنوان “Qualifying and Quantifying the Benefits of Mindfulness Practices for IT Workers” أنَّ ممارسة تمرينات التأمل والوعي الذهني لمدة ثمانية أسابيع، خفَّضّت مستويات التوتر وحسَّنَت الرفاهية العقلية لدى العاملين في بيئات العمل الرقمية. أشارت النتائج إلى أنَّ إدراج طقوس ذهنية بسيطة ضمن الروتين اليومي، يعزز الصحة النفسية في العمل ويزيد من إدارة الطاقة الذهنية بفعالية.

العمل عن بعد

الأسئلة الشائعة

1. ما الفرق بين التعب والإرهاق المزمن؟

التعب مؤقت ويزول بعد النوم أو الراحة القصيرة، بينما الإرهاق الناتج عن العمل عن بُعد عادة ما يستمر رغم الإجازة أو الحصول على النوم الكافي، ويؤثر أكثر في التركيز والإنتاجية.

2. هل يمكن تجنب الإرهاق في العمل عن بُعد؟

نعم، يمكن الحد من الإرهاق الناتج عن العمل عن بُعد من خلال وضع حدود زمنية ومكانية واضحة، والالتزام بفواصل منتظمة لاستعادة الطاقة، واعتماد استراتيجيات لإدارة الطاقة الذهنية والتوازن بين الحياة والعمل.

3. ما دور الروتين اليومي في تقليل الإرهاق؟

يساعد الروتين اليومي على إعداد الدماغ للفصل بين العمل والراحة، مما يقلل الإجهاد الذهني والإرهاق الناتج عن العمل عن بُعد ويعزز الصحة النفسية في العمل. الروتين المنظم يدعم الانتقال السلس بين مهام العمل والحياة الشخصية.

إقرأ أيضاً: كيف تتجنب الإجهاد الوظيفي عند العمل من المنزل؟

4. هل يمكن أن يكون الإرهاق نفسياً أكثر من جسدي؟

نعم، غالباً ما يكون الإرهاق الذهني أكثر شيوعاً من الإرهاق الجسدي لدى العاملين عن بُعد، ويؤدي إلى فقدان الحافز، وضعف التركيز، وتراجع الأداء حتى مع الحفاظ على صحة الجسم.

5. ما النشاطات التي تساعد على الاستعادة الذهنية؟

تحدُّ النشاطات التالية من الإرهاق الناتج عن العمل عن بُعد وتحسن التوازن الذهني: المشي، والتأمل، وممارسة النشاطات الإبداعية، وقضاء وقت بعيد عن الشاشات. هذه الممارسات تعزز القدرة على إدارة الطاقة الذهنية وتحافظ على الصحة النفسية في العمل.

ختاماً: العمل عن بُعد نعمة لا تحوله إلى نقمة

“يصبح العمل عن بُعد مستداماً عندما يوازن الفرد بين الإنتاجية والراحة النفسية من خلال إدارة حدوده الشخصية بوعي”.

وفقاً لآراء عدة خبراء، فإنَّ الفصل الحاد بين العمل والحياة الشخصية، أدى إلى انخفاض كبير في مستويات الإرهاق الناتج عن العمل عن بُعد وتحسين واضح في التوازن بين الحياة والعمل. هذا يؤكد أنَّ إدارة الحدود الذهنية، ليست رفاهية؛ بل ضرورة للحفاظ على الطاقة النفسية والإنتاجية.

انطلاقاً من هذه النتائج، يطرح هذا السؤال نفسه: هل سنترك الإرهاق يحدد تجربتنا مع العمل عن بُعد، أم سنبني التوازن بعقول أكثر وعياً وحدود واضحة؟

ابدأ اليوم بخطوة بسيطة: صفِّي ذهنك، وافصل حياتك عن مهام العمل، وامنح نفسك فرصة للتجدد. إنَّ العناية بالحدود الذهنية والطاقة النفسية، تُبقي العمل عن بُعد تجربة إيجابية ومرنة، بعيداً عن أي إرهاق مفرط قد يقوض الإنجاز والإبداع. صحتك الذهنية ليست رفاهية؛ بل أساس إنتاجيتك.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى